الوارث..

 قام سبط ذاك الذي صيّر الصحراء دوحة خضراء، ريحانة محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآلهليعيد دينه إلى واقع الناس بعد أن صارشعارات براقة لواقع ضال!.. خرج ابن ذاك الرجل الذي لا يعرفه إلا الله ورسوله، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ليسير بذات المسير ويلقىالله بذات المصير فائزًا ورب الكعبة، نهض ابن سيدة النساء التي حالت بين القوم وبين ولي الله، وقدمت نفسها الزكية فداء للوصي، ليكونالدين لله وحده وتبقى (أشهد أن محمدًا رسول اللهلفظًا ومعنى وسلوكًا إلى يوم ينادي آخر الأوصياء: "يا أهل العالم قُتل جدي الحسينعطشانًا"، يوم يثأر الله للدماء الزاكيات منذ قتل قابيل هابيل إلى آخر قطرة دم مظلومة، ويتم الله نوره ويظهره على الدين كله.. فالسلام عليكَأيها الوارث وعلى الأرواح التي حلت بفنائك عليكم مني سلامُ الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، وهذا عهدنا لكم ويا ليتنا كنا معكم فنفوزفوزًا عظيمًا


هذه الليلة!.. لو كشف الغطاء لما غفت عين ولا رقأت الدمعة ولا هدأت الونة، فالسماء في صيحة وضجيج لما نزل من عظيم المصاب، فلا عجبأن يكون الصباح يوم فجيعة ذوي البصائر ويوم كربهم وحزنهم، فبينهم وبين السماء نور حلّ في قلوبهم يستحيل في هذا اليوم نارًا لا تنطفئأبدًا، نارٌ جعلت وجودهم كيان رافض للظلم وأساسه، لا يتمكن أحدهم أن يتعايش مع وجوده، ليرغب المؤمن في لقاء محقًا، فالوارث الذييبكون لا يرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما، لذلك ستعلو في كل مأتم ومجلس وبيت "إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْإِلى يَوْمِ القِيامَةِ"، فكربلاء الفاجعة قد انتهت وقائعها ذاك اليوم، وبقيت بحرارتها في القلوب السليمة إلى يوم القيامة، لذلك تتجدد في النفوسقيم الولاء للحق والبراءة من الباطل في ذكراها؛ إذا ما ران على القلوب غبار الدنيا وفتنها المتجددة، فيوم عاشوراء يوم التخلية والتحلية، يومٌ لاتنفك فيه (لا إلهعن (إلا الله)، فأشهد أن لا إله إلا الله.


هو الحزن الأقدس!.. لمن نال كرامة معرفة أولياء الله، وما بذلوا في سبيل الله ليستنقذوا عباده من الجهالة وحيرة الضلالة، فمن هوان الدنياعلى الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا يُهدى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، ويهدى رأس الوارث إلى الفاسق الفاجر، شارب الخمر قاتلالنفس المحترمة المعلن بالفسق والفجور، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وهكذا تستمر تصاريف هذه الدنيا في كل يوم على أولياء الله، فينادياليوم من سيأتي الله بالقيامة بقلب سليم داعيًا "وَأَنْ يُثَبِّتَ لِي عِنْدَكُمْ قَدَمَ صِدْقٍ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِلينال شرف الانتساب إلى الوارث في أيزمان كان وفي أي بقعة حل، فتنتسب المصيبة الكبرى له فيسأل الله أن يعطى بمصابه بهم أفضل ما يعطى مصابًا بمصيبته "مُصِيبَةًماأَعْظَمَها وَأَعْظَمَ رَزِيَّتَها فِي الإسْلامِ وَفِي جَمِيعِ السَّماواتِ وَالأَرْضِفتناله الصلوات والرحمة والمغفرة ويكون معهم في الدرجات العلى منالجنان.


نعم؛ حين يحزن المعزين لحزنهم ويوم يفرحون لفرحهم، ستظل جذوة ذلك اليوم في قلوبهم، محبة بل وعشقًا للحق الظاهر بشخوصهم الطاهرة،وإن المحب لمن أحب مطيعُ كما ورد عن الوارث، وما كان هو بأبي وأمي سوى المحب الواله للقاء لله تعالى فكان من دعاءه الشهير في موقفعرفة "إلهي فَلا تُحْلِلْ عَلَىَّ غَضَبَكَ، فَاِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَىَّ فَلا اُبالى سُبْحانَكَ غَيْرَ اَنَّ عافِيَتَكَ اَوْسَعُ لىفكانت عاشوراءه مصداقًا لما لهج بهبين يدي خالقه، والمرء إن شاء أن يكون حسينيًا فليكن إلهيًا، فما خرج الحسين (عليه السلامطالبًا للسلطة ولا ساعيًا للشهادة وإن كانراغبًا بها، فتلك نتائج بيد الله تعالى وهو المسلّم لأمره بما شاء وكما ورد عن أخيه المظلوم الحسن المجتبى (عليه السلام) : "من اتكل على حسن اختيار الله عز وجل له لم يتمنَ غير الحال التي اختارها الله تعالى لهلذلك نادى في صبيحة يوم عاشوراء: "اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي‌ فِي‌ كُلِّ كَرْبٍ ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي‌ فِي‌كُلِّ شِدَّةٍ ؛ وَأَنْتَ لِي‌ فِي‌ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي‌ ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ"، ولكنه خرج كما نادى وأعلن في غير موضع لطلب النجاح والصلاح، وماشاء الله كان ورضي به (عليه السلامورضي به كل سائر على الدرب لذلك نقول "اللّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ لَكَ عَلى مُصابِهِمْ، الحَمْدُ للهِعَلى عَظِيمِ رَزِيَّتِي، اللّهُمَّ ارْزُقْنِي شَفاعَةَ الحُسَيْنِ يَوْمَ الوُرُودِ وَثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ الحُسَيْنِ وَأَصْحابِ الحُسَيْنِ الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلامُ".


وما أجمل ما أبدع الشاعر الجواهري في عينيته، وما ألذ قراءتها في مثل هذه الليلة بمضامينها العالية، التي جمعت فجيع المصيبة وقيمصاحبها


فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ 

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ


بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ 

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ


وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف

وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ


وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس 

على نَهْجِكَ النَّيِّـرِ المَهْيَـعِ


وصَوْنَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال 

بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ


فيا أيُّها الوِتْرُ في الخالدِينَ 

فَـذَّاً ، إلى الآنَ لم يُشْفَـعِ


ويا عِظَةَ الطامحينَ العِظامِ 

للاهينَ عن غَـدِهِمْ قُنَّـعِ


تعاليتَ من مُفْزِعٍ للحُتوفِ 

وبُـورِكَ قبـرُكَ من مَفْـزَعِ


تلوذُ الدُّهورُ فَمِنْ سُجَّدٍ 

على جانبيـه ومـن رُكَّـعِ


شَمَمْتُ ثَرَاكَ فَهَبَّ النَّسِيمُ 

نَسِيـمُ الكَرَامَـةِ مِنْ بَلْقَـعِ


وعَفَّرْتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ 

خَـدٌّ تَفَرَّى ولم يَضْـرَعِ


وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُّغَاةِ 

جالتْ عليـهِ ولم يَخْشَـعِ 


وَخِلْتُ وقد طارتِ الذكرياتُ 

بِروحي إلى عَالَـمٍ أرْفَـعِ


وطُفْتُ بقبرِكَ طَوْفَ الخَيَالِ 

بصومعـةِ المُلْهَـمِ المُبْـدِعِ


كأنَّ يَدَاً مِنْ وَرَاءِ الضَّرِيحِ 

حمراءَ " مَبْتُـورَةَ الإصْبَـعِ


تَمُدُّ إلى عَالَـمٍ بالخُنُـوعِ 

وَالضَّيْـمِ ذي شَرَقٍ مُتْـرَعِ


السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ إِبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَمُوسى كَلِيمِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِيسى رُوحِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ ، السَّلامُعَلَيْكَ يا وارِثَ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ



ليلة عاشوراء - ١٤٤٢ هـ

كربلاء المصطفون..


تاريخ البشرية حافل بصراع الإرادات، بالقطع واليقين ليس دومًا طرفيه خيرٌ وشر، ولكن الشر دومًا هو أحد أطراف الصراع، فالخير لا يتصارع بل يتنافس فيه المختلف نحو التكامل في سبيل القيم والمبادئ، يتمكن المرء دون بحث وتمحيص أن يجزم أن كل بقعة في هذا الكون شهدت أو تشهد نوعًا من الصراع، وكل مقطع زماني في دورات البشرية كذلك يشهد ضرب من هذه الصراعات، وهذا ما تخوفت منه الملائكة في حوار ينقله الله ذو الجلال في كتابه الكريم "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة 30) فطبيعة النوع البشري تتصارع حتى في أنفسها قبل مجتمعها، ولكن الله تبارك وتعالى يعلم ما لا يعلم خلقه.
في هذه البشرية المشحونة كانت رسالة الله السلام و"إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ" (آل عمران 19)، وفي هذه البشرية مصطفون من السلام، ويدعون إلى دار السلام، بعد أن وهب الله أرواحهم السكينة والسلام، أنبياء ورسل ورسالات، لتوظيف طاقات البشرية في مسار التكامل، ليستحيل الصراع إلى تنافس في سبيل الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وما أشد مسارعة ذوي الألباب في هذا الميدان، وما أزهد الأغلب من البشر هنا، زهد الجاهلين الغافلين، لذا هرع هؤلاء لتصفية المصطفون لتستمر مسيرة الصراعات، مما اضطر المصطفون لخوض صراع ليس هو صراع الإرادات المذكور، بل صراع الخير والشر، صراع للدفاع عن البشرية التي تعرضت وتتعرض للغش والخداع، صراع للدفاع عن حقوق الإنسان الحقيقية، حقه في معرفة "من أين؟! وفي أين؟! وإلى أين؟!"، صراع للكشف عن حقيقة عالم التغير والفساد مقابل حياة يستحقها نوع الإنسان.
قدم المصطفون في هذا السبيل التضحيات الجسام، تضحيات لا يسع لذكرها كتاب فضلًا عن مقال، ذكرتها كتب السماء وكتب التاريخ البشري، بل وتحدثت روايات وكتب الملاحم عن نماذج مستقبلية للتضحيات التي سيقدمها أنصار المصطفون في هذا السبيل، إلى أن تظهر دولة العدل الإلهي التي يترقبها هذا الخط بأنبياءه ورسله وأوصيائهم وأنصارهم، ليتنافس فيها الأنداد نحو تكاملهم، بدل أن تتصارع إراداتهم على كل غث وسمين، وكان فصلًا مفصليًا في تضحيات المصطفون تضحية سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث أنها تضحية ممهدة لهذه الدولة التي ترقبها البشرية، بعد أن تفشل كل صراعات الإرادات في ارساء السلام على المعمورة، وهل من نفس لا ترنو للسلام ومجتمع لا يبحث عنه؟!
كربلاء!.. نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، نهضة الإمتداد لرسالة جده النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي قدم تضحيات جسام حتى قال : "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" (بحار الأنوار ج39، وكذلك وصيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي قال: "لقد ظلمت عدد الحجر والمدر" (نهج البلاغة)، وهكذا على طوال الخط الذي قدمت فيه الزهراء صفوة المصطفون ما قدمت ودونه التاريخ، أما كربلاء فعلى صعيد البكاء والعطاء كانت القمة، فالإمام الحسن السبط الزكي في أوج ظلامته التي تقرح القلوب خاطب أخاه بـ "لا يوم كيومك يا أباعبد الله" (أمالي الشيخ الصدوق)، لأنها عاشوراء!.. حيث الحسين طعمة السيوف، ومـاذا أأروع مـن أن يكون لحمه وقفا على المبضع، كربلاء!.. حيث سبط آخر الأنبياء أجرمت بحقه عصبه من أمة جده بإسم دين جده ووحده هو وارث جده، هذا التزييف الذي مارسته تلك العصابة كان من الخطورة بأن يُخرج  الحسين معه بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى رأسهم فخر المخدرات زينب الكبرى، كيوم المباهلة يوم فصل رسول الله الحق عن الباطل بأسرته وأخرج معه سيدة الدنيا والآخرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)،  هنا المصطفون يواجهون خطر تزوير الرسالات بعد أن فشل المتزاحمون المتصارعون من اطفاء نور الله، لذا لم تتوانى طغمة الجور في ارتكاب أفضع الجرائم بحق أسرة آخر الأنبياء وأي نبي هو وأي عترة هي عترته، هي خير ما خلق الله من المصطفون.
لا عجب أن تستمر ذكرى كربلاء بحرارتها إلى اليوم وإلى يوم الدين، وكأن الأمة العاصية قد ارتكبت جريمتها بالأمس، لأنها التضحية الكبرى في هذا الخط الإلهي من حيث عظمة شخصيات المصطفون ومن حيث السوابق الإجرامية التي ارتكبها الأعداء، هنا الحق والباطل كالليل والنهار لا لبس فيهما، ولا عجب أن نستمر في مآتمنا على هذه المصيبة فتلك معجزة محمد بن عبد الله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) الذي أخبر أن لصاحب هذه المصيبة حرارة لا تنطفئ أبدًا، وهو وعده لابنته الطاهرة البتول بأنْ سيخلق الله شيعة يبكونه، وهو قسم حفيدته التي حملت لواء حفظ خط المصطفون، حيث واجهت رأس الإجرام بخطبة تبهر العقول وتفجع القلوب، نعم أقسمت زينب الكبرى "فوالله لن تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا"، لذا فإن شعائرنا التي نحيها هي بكل فخر تحقيقا لما أنبأ عنه رسول الله ووعده لابنته وقسم حفيدته، والشعائر هي سور مدرسة المصطفون، وكما يذكر د. هوستن سميث مؤلف كتاب أديان العالم في مقدمته "إن أحد أهم الأوهام العقلانية هي تصورها أن المبادئ العالمية لدين ما؛ أكثر أهمية من الطقوس والشعائر التي نمت تلك المبادئ في تربتها . إن هذا يشبه قول من يقول أن الشجرة أهم من الشمس والتربة اللذين أخذت الشجرة منهما حياتها"، فلا بقاء لكل المدرسة بمبادئها وقيمها إلا في إحياء الشعائر، لنستمر وتستمر مدرسة المصطفون في التضحيات والعطاء وصولًا ليوم ثارات الحسين (عليه السلام)، ثارات كل التضحيات والمضحين، وإحياء أمر الله على يد آخر الأوصياء لآخر الأنبياء.
السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ إِبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُوسى كَلِيمِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِيسى رُوحِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ



ليلة عاشوراء ١٤٤٠ ه‍





سيد بلد



للتجارب الأولى دومًا لذتها الخاصة ، يدركها حصرًا من تذوقها ، مع أنها دائمًا محفوفة بكمٍ هائل من الوصف والتشويق ممن سبقك لها ، لكن الوصف شيء والمعايشة شيء آخر ، فوصف النور في الظلام لا ينيره ، وليس من سمع كمن رأى ، وهكذا كانت زيارتي الأولى مليئةً بالتشويق ، طوال طريقٍ طويل في حافلة مليئة بالركاب ، أستمع إلى قصص هنا وأحداث هناك ، وحديث عن مقامات هنا وآخر عن كرامات هناك ، فتساءلت حينها في نفسي أين أنا من هذا الفيض الإلهي المبارك ، لم أعرف عنه إلا الآن ، ويبدو أنني سأعرفه عند الوصول ولو كإشراقةٍ من شعاعٍ من شمس ..

في كتابه أعيان الشيعة يقول السيد محسن الأمين  العاملي بشأنه أنه " سيد جليل القدر عظيم الشأن ، كانت الشيعة تظن إنه الإمام من بعد أبيه (عليه السلام) " وبعد ارتحاله إلى ربه نص الإمام على أخيه وأظهر للناس حجة الله تعالى ، ولعل في ذلك الحكمة من الله تعالى ، لحفظ حجة الله ووالد الشمس التي توارت خلف السحاب ، فكان السيد محمد أبو جعفر بن الإمام علي الهادي (عليه السلام) من الممهدين لحفظ الوديعة الإلهية إلى اليوم المعلوم ..

عندما وصلنا إلى منطقة "بلد" بعد أكثر من خمس ساعات في الحافلة التي عرّجت أولًا إلى سُرّ من رأى لزيارة المراقد المقدسة ، نزلنا من الحافلة من مسافة بعيدة عن المرقد المقدس للسيد محمد بن علي ، صار كمُّ التشويق أكبر من حيث لا يدرون وأدري ، فالمسير إلى المراقد دومًا يحمل إلى أذنيك أصوات الداعين ، وحنين المشتاقين ، واستغاثة الملهوفين ، فهنا بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه ، وهنا رياض الجنة يرتع فيها المؤمنون ..

ولد السيد محمد المشهور بـ سبع الدجيل في عام 228 للهجرة ، في قرية من قرى المدينة المنورة على مشرفها وآله الصلاة والسلام ، ويقال لها صريا والتي بقي بها السيد محمد بن علي  بعد أن أمر الطاغية العباسي بنقل والده الإمام علي الهادي (عليه السلام) إلى سامراء حيث الإقامة الجبرية ورحلة الغربة المريرة ، وكما سبق وأشرنا شاع بين أصحاب أبيه أنه الإمام من بعده ، لسمو أخلاقه وغزارة علمه ومقاماته العالية ، بحيث أن مثل هؤلاء الأصحاب الذين هم الخلاصة كان لهم مثل هذا الإعتقاد ، إلى أن بدا أمر الله تعالى للناس في إمامنا الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) ، وذلك حين رحل السيد إلى جوار ربه ، إذ بعد مدة من الفراق زار السيد محمد سامراء ومكث فيها عند أبيه ولازم فيها أخيه (عليهم السلام) ..

دخلنا في محيط الحضرة المقدسة ولفت نظري عند بوابة التفتيش الأولى امرأة عجوز مغادرة و تناظر القبة الشريفة وتخاطب السيد الجليل بلغة عامية ، تدخل إلى قلب كل من يسمعها فكيف لا تدخل في قلب صاحب هذه الجنة الزاهرة ، فهو من عترةً هي مظهر لطف الله وكرمه ، وفي زيارة أخرى ذات المنظر تكرر مع رجل عجوز وهو في سيارة الأجرة ، ويرفع "عقاله" ناخيًا السيد الجليل بأن لا يرد طلبته ، وهكذا المشاهد تتوالى ، والأصوات ترتفع وتنخفض والله سميع بصير ..

لسبع الدجيل صفات ومقامات عددها العلماء الأجلاء الباحثين في سير الطاهرين كالعلامة الشيخ محمد باقر القرشي إذا يقول فيه "  كان السيد محمد أبو جعفر انموذجاً رائعاً للأئمة الطاهرين ، وصورة صادقة لأفكارهم واتجاهاتهم ، وقد تميز بذكائه ، وخلقه الرفيع ، وسعة علمه ، وسمو آدابه حتى اعتقد الكثيرون من الشيعة أنه الإمام من بعد أبيه الهادي عليه السلام"

ومن الرجل والمرأة العجوز كان الإلهام، فبعد دخول الحضرة الطاهرة وأداء المراسم المستحبة من اذن الدخول وقراءة الزيارة ، قررت أن أخاطب السيد بلهجتي وعلى سجيتي ، وشكرت الله أن وفقني لذلك الموقف ، فكان أجمل مما وصف وأكبر من أن يوصف ، وما زلت في زياراتي له أُفضل مخاطبته على السجية ، وأشعر أن ما يخرج من قلبي لعله يوفق فيلج في قلب صاحب المشهد ، فأفوز فوزًا عظيمًا ، سواء تحقق قضاء الحوائج أم كان لله تبارك وتعالى حكمة أخرى ، فلذة المناجاة مع العبد الصالح هي المنى الأكبر ..

مما روى العارف الكيلاني في رحيل السيد : مرض أبو جعفر مرضاً شديداً ، واشتدت به العلة ، ولا نعلم سبب مرضه هل إنه سقي سُمّاً من قبل أعدائه وحساده العباسيين الذين عزّ عليهم أن يروا تعظيم الجماهير وإكبارهم إياه ، أم أن ما مني به من مرض كان مفاجئاً؟ وعلى أي حال فقد بقي أبو جعفر (عليه السلام) أياماً يعاني السقم حتى ذبلت نضارة شبابه ، وكان الإمام أبو محمد الحسن (عليه السلام) ملازماً له وقد ضاقت به الهموم على أخيه الذي كان من أعزّ الناس عنده ومن أخلصهم له إضافة إنه كان أخاه الأكبر.
وثقل حال أبي جعفر وفتك به المرض فتكاً ذريعاً ، واشتد به النزع ، فأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم ، ويمجد الله حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها كما تصعد أرواح الأنبياء والأوصياء تحفها ملائكة الرحمن ، وتصدع قلب أبي محمد (عليه السلام) ، فقدْ فقدَ شقيقه الذي كان عنده أعز من الحياة ، وطافت به موجات من اللوعة والأسى والحسرات ، وخرج وهو غارق بالبكاء والنحيب ، وقد شق جيبه لهول مصيبته بأخيه وتصدعت القلوب لمنظره الحزين ، وألجمت الألسن ، وترك الناس بين صائح ونائح قد نخر الحزن قلوبهم.

اشتهرت عن السيد الجليل الكرامات الكثيرة والكبيرة ، حتى أن لقبه الشهير عند الناس اليوم هو سبع الدجيل كان نتيجة لهذه المقامات الجليلة العظيمة ، فقد تلقب به بعد أن كان قطاع الطرق في الأزمنة السابقة يهابون التعرض لمرقده وزواره لما تجلى لهم من الكرامات الباهرة ، وكان أحد أحبابنا في زيارتي الأولى للمرقد الطاهر ممن يهاب مقامه لما عايشه بنفسه من إحدى كرامات السيد الجليل ، وقد حمل أمانة للمرقد ، فكنا نمازحه بأنها قد تلفت أو قد تتلف ، فلم يسترح له بال وخاطر إلا حينما أوصلها كما هي للمرقد الطاهر ، فالكرامات هنا واقع محسوس ..

يقول السيد محمد كاظم القزويني في كتابه الإمام الهادي من المهد إلى اللحد "ولا نعلم سببَ وفاة السيّد محمّد في تلك السنّ ، فنعتبر وفاته حتف أنفه مشكوكاً فيها ، لأنّ الأعداء كانوا ينتهزون كلَّ فرصةٍ لقطع خطّ الإمامة في أهل البيت عليهم السّلام ، فلعلّهم لَمّا عرفوا أنّ السيّد محمّداً رضوان الله عليه هو أكبرَ أولاد أبيه الهادي سلام الله عليه، وهو ( المحتمل ) أن يكون مرشّحاً للإمامة بعد أبيه ، قتلوه كما قتلوا أسلافه مِن قبل ، فانتهز الإمام الهادي (عليه السّلام) الفرصة ليَنُصَّ على ولده الحسن العسكريّ (عليه السّلام) بالإمامة بمحضرٍ من أولئك الناس"  ، فببركته حفظت الإمامة والإمام ..

السيد محمد بن الإمام الهادي هو أحد أبواب الوسيلة إلى الله تعالى ، وكم حورب هذا المقام حتى زماننا هذا ، إذ تشرفت بزيارته ذات مرة ، فكان المرقد يخلو إلا من زوار لا يتعدى عددهم أصابع اليدين ، وعلقت بالشوارع الخالية صور أبناء هذه البلدة من ضحايا الإرهاب ومواجهته ، فالمدينة كغيرها تحكي ظلامة آل محمد في كل زمان ، وبعد هذه الزيارة كانت زيارة أخرى ، كان الحال غير الحال ، مئات ملئت الصحن الشريف ، وزوار من كل أنحاء العالم الإسلامي ، نعم فالسبع قد حمى عرينه وقصده الناس آمنين ، وكما يقال فإن الوجدان أدل من البرهان ، فمن عاش واقع الإستجابة عبر الوسيلة التي ارتضاها الله تبارك وتعالى هو ممن ذاق فعرف وعشق ، لن يجدي معه استهزاء وتسفيه بل وحتى تكفير وتفجير ..

في كتاب منتهى الآمال للمحدث القمي يحدثنا عن المزار المبارك فيقول "مزار السيد محمد في ثمان فراسخ عن سر من رأى قرب قرية بلد ، وهو أجلاء السادة وصاحب كرامات متواترة حتى عند أهل السنة والأعراب ، فهم يخشونه كثيراً ولا يحلفون به يميناً كاذبة ، ويجلبون النذور إلى قبره ، بل يقسم الناس بحقه في سامراء لفصل الدعاوي والشكايات ، ولقد رأينا مراراً ان المنكر لأموال شخص مثلاً إذا طلبوا منه القسم بأبي جعفر كان يرد المال ولا يقسم ، وذلك لتجربتهم أن الكاذب لو حلف به يصيبه الضر ، ورأينا منه في أيامنا هذه كرامات باهرة ، ولقد عزم بعض العلماء أن يجمع تلك الكلمات ويدونها حتى تصير كتاباً يحتوي على فضائله"

وختامًا يقول الحكيم ابن رشد في كتابه تهافت التهافت "من رفع الأسباب رفع العقل" وكان ذلك ضمن تفنيده مقال منكري قانون العلية التي يسير بها نظام الكون وعقل الإنسان ، فهو القانون الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى كما ورد في الأثر الشريف عنهم (عليهم السلام) "أبى الله إلا أن يجري الأمور إلا بأسبابها" (بحار الأنوار) ، ولا دليل على اقتصار هذا القانون على عالم الملك ، بل هو سار في كل عالم به الإنسان وعقله ، وإن توارت عن الأفهام أسرار بعض العلاقات العلية ، وإحدى هذه المظاهر هو العلاقة بين الإستجابة والوسيلة إلى الله عز وجل ، كما بقية العلاقات التي بينها القرآن كالصلاة والنهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا قيمة بعد هذا لمن يدعي العقل والتعقل ، وهو يهزأ بمثل هذه المظاهر عند المراقد الشريفة ، فهو قد رفع الأسباب التي يجهلها فرفع عقله معها ، بينما فيلسوف عقلي "كأمانويل كانت" توقف عند الماورائيات الدينية باعتبارها مجالًا للتلقي الوحياني ..

والسلام على أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يوم ولد ويوم رحل ويوم يبعث حيا



ملاحظة : تمت الإستفادة في كتابة هذا المقال من بعض المواقع الإلكترونية العلمية المعتمدة على المصادر الحديثية والبحثية