سيد بلد



للتجارب الأولى دومًا لذتها الخاصة ، يدركها حصرًا من تذوقها ، مع أنها دائمًا محفوفة بكمٍ هائل من الوصف والتشويق ممن سبقك لها ، لكن الوصف شيء والمعايشة شيء آخر ، فوصف النور في الظلام لا ينيره ، وليس من سمع كمن رأى ، وهكذا كانت زيارتي الأولى مليئةً بالتشويق ، طوال طريقٍ طويل في حافلة مليئة بالركاب ، أستمع إلى قصص هنا وأحداث هناك ، وحديث عن مقامات هنا وآخر عن كرامات هناك ، فتساءلت حينها في نفسي أين أنا من هذا الفيض الإلهي المبارك ، لم أعرف عنه إلا الآن ، ويبدو أنني سأعرفه عند الوصول ولو كإشراقةٍ من شعاعٍ من شمس ..

في كتابه أعيان الشيعة يقول السيد محسن الأمين  العاملي بشأنه أنه " سيد جليل القدر عظيم الشأن ، كانت الشيعة تظن إنه الإمام من بعد أبيه (عليه السلام) " وبعد ارتحاله إلى ربه نص الإمام على أخيه وأظهر للناس حجة الله تعالى ، ولعل في ذلك الحكمة من الله تعالى ، لحفظ حجة الله ووالد الشمس التي توارت خلف السحاب ، فكان السيد محمد أبو جعفر بن الإمام علي الهادي (عليه السلام) من الممهدين لحفظ الوديعة الإلهية إلى اليوم المعلوم ..

عندما وصلنا إلى منطقة "بلد" بعد أكثر من خمس ساعات في الحافلة التي عرّجت أولًا إلى سُرّ من رأى لزيارة المراقد المقدسة ، نزلنا من الحافلة من مسافة بعيدة عن المرقد المقدس للسيد محمد بن علي ، صار كمُّ التشويق أكبر من حيث لا يدرون وأدري ، فالمسير إلى المراقد دومًا يحمل إلى أذنيك أصوات الداعين ، وحنين المشتاقين ، واستغاثة الملهوفين ، فهنا بيوت أذن الله ترفع ويذكر فيها اسمه ، وهنا رياض الجنة يرتع فيها المؤمنون ..

ولد السيد محمد المشهور بـ سبع الدجيل في عام 228 للهجرة ، في قرية من قرى المدينة المنورة على مشرفها وآله الصلاة والسلام ، ويقال لها صريا والتي بقي بها السيد محمد بن علي  بعد أن أمر الطاغية العباسي بنقل والده الإمام علي الهادي (عليه السلام) إلى سامراء حيث الإقامة الجبرية ورحلة الغربة المريرة ، وكما سبق وأشرنا شاع بين أصحاب أبيه أنه الإمام من بعده ، لسمو أخلاقه وغزارة علمه ومقاماته العالية ، بحيث أن مثل هؤلاء الأصحاب الذين هم الخلاصة كان لهم مثل هذا الإعتقاد ، إلى أن بدا أمر الله تعالى للناس في إمامنا الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) ، وذلك حين رحل السيد إلى جوار ربه ، إذ بعد مدة من الفراق زار السيد محمد سامراء ومكث فيها عند أبيه ولازم فيها أخيه (عليهم السلام) ..

دخلنا في محيط الحضرة المقدسة ولفت نظري عند بوابة التفتيش الأولى امرأة عجوز مغادرة و تناظر القبة الشريفة وتخاطب السيد الجليل بلغة عامية ، تدخل إلى قلب كل من يسمعها فكيف لا تدخل في قلب صاحب هذه الجنة الزاهرة ، فهو من عترةً هي مظهر لطف الله وكرمه ، وفي زيارة أخرى ذات المنظر تكرر مع رجل عجوز وهو في سيارة الأجرة ، ويرفع "عقاله" ناخيًا السيد الجليل بأن لا يرد طلبته ، وهكذا المشاهد تتوالى ، والأصوات ترتفع وتنخفض والله سميع بصير ..

لسبع الدجيل صفات ومقامات عددها العلماء الأجلاء الباحثين في سير الطاهرين كالعلامة الشيخ محمد باقر القرشي إذا يقول فيه "  كان السيد محمد أبو جعفر انموذجاً رائعاً للأئمة الطاهرين ، وصورة صادقة لأفكارهم واتجاهاتهم ، وقد تميز بذكائه ، وخلقه الرفيع ، وسعة علمه ، وسمو آدابه حتى اعتقد الكثيرون من الشيعة أنه الإمام من بعد أبيه الهادي عليه السلام"

ومن الرجل والمرأة العجوز كان الإلهام، فبعد دخول الحضرة الطاهرة وأداء المراسم المستحبة من اذن الدخول وقراءة الزيارة ، قررت أن أخاطب السيد بلهجتي وعلى سجيتي ، وشكرت الله أن وفقني لذلك الموقف ، فكان أجمل مما وصف وأكبر من أن يوصف ، وما زلت في زياراتي له أُفضل مخاطبته على السجية ، وأشعر أن ما يخرج من قلبي لعله يوفق فيلج في قلب صاحب المشهد ، فأفوز فوزًا عظيمًا ، سواء تحقق قضاء الحوائج أم كان لله تبارك وتعالى حكمة أخرى ، فلذة المناجاة مع العبد الصالح هي المنى الأكبر ..

مما روى العارف الكيلاني في رحيل السيد : مرض أبو جعفر مرضاً شديداً ، واشتدت به العلة ، ولا نعلم سبب مرضه هل إنه سقي سُمّاً من قبل أعدائه وحساده العباسيين الذين عزّ عليهم أن يروا تعظيم الجماهير وإكبارهم إياه ، أم أن ما مني به من مرض كان مفاجئاً؟ وعلى أي حال فقد بقي أبو جعفر (عليه السلام) أياماً يعاني السقم حتى ذبلت نضارة شبابه ، وكان الإمام أبو محمد الحسن (عليه السلام) ملازماً له وقد ضاقت به الهموم على أخيه الذي كان من أعزّ الناس عنده ومن أخلصهم له إضافة إنه كان أخاه الأكبر.
وثقل حال أبي جعفر وفتك به المرض فتكاً ذريعاً ، واشتد به النزع ، فأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم ، ويمجد الله حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها كما تصعد أرواح الأنبياء والأوصياء تحفها ملائكة الرحمن ، وتصدع قلب أبي محمد (عليه السلام) ، فقدْ فقدَ شقيقه الذي كان عنده أعز من الحياة ، وطافت به موجات من اللوعة والأسى والحسرات ، وخرج وهو غارق بالبكاء والنحيب ، وقد شق جيبه لهول مصيبته بأخيه وتصدعت القلوب لمنظره الحزين ، وألجمت الألسن ، وترك الناس بين صائح ونائح قد نخر الحزن قلوبهم.

اشتهرت عن السيد الجليل الكرامات الكثيرة والكبيرة ، حتى أن لقبه الشهير عند الناس اليوم هو سبع الدجيل كان نتيجة لهذه المقامات الجليلة العظيمة ، فقد تلقب به بعد أن كان قطاع الطرق في الأزمنة السابقة يهابون التعرض لمرقده وزواره لما تجلى لهم من الكرامات الباهرة ، وكان أحد أحبابنا في زيارتي الأولى للمرقد الطاهر ممن يهاب مقامه لما عايشه بنفسه من إحدى كرامات السيد الجليل ، وقد حمل أمانة للمرقد ، فكنا نمازحه بأنها قد تلفت أو قد تتلف ، فلم يسترح له بال وخاطر إلا حينما أوصلها كما هي للمرقد الطاهر ، فالكرامات هنا واقع محسوس ..

يقول السيد محمد كاظم القزويني في كتابه الإمام الهادي من المهد إلى اللحد "ولا نعلم سببَ وفاة السيّد محمّد في تلك السنّ ، فنعتبر وفاته حتف أنفه مشكوكاً فيها ، لأنّ الأعداء كانوا ينتهزون كلَّ فرصةٍ لقطع خطّ الإمامة في أهل البيت عليهم السّلام ، فلعلّهم لَمّا عرفوا أنّ السيّد محمّداً رضوان الله عليه هو أكبرَ أولاد أبيه الهادي سلام الله عليه، وهو ( المحتمل ) أن يكون مرشّحاً للإمامة بعد أبيه ، قتلوه كما قتلوا أسلافه مِن قبل ، فانتهز الإمام الهادي (عليه السّلام) الفرصة ليَنُصَّ على ولده الحسن العسكريّ (عليه السّلام) بالإمامة بمحضرٍ من أولئك الناس"  ، فببركته حفظت الإمامة والإمام ..

السيد محمد بن الإمام الهادي هو أحد أبواب الوسيلة إلى الله تعالى ، وكم حورب هذا المقام حتى زماننا هذا ، إذ تشرفت بزيارته ذات مرة ، فكان المرقد يخلو إلا من زوار لا يتعدى عددهم أصابع اليدين ، وعلقت بالشوارع الخالية صور أبناء هذه البلدة من ضحايا الإرهاب ومواجهته ، فالمدينة كغيرها تحكي ظلامة آل محمد في كل زمان ، وبعد هذه الزيارة كانت زيارة أخرى ، كان الحال غير الحال ، مئات ملئت الصحن الشريف ، وزوار من كل أنحاء العالم الإسلامي ، نعم فالسبع قد حمى عرينه وقصده الناس آمنين ، وكما يقال فإن الوجدان أدل من البرهان ، فمن عاش واقع الإستجابة عبر الوسيلة التي ارتضاها الله تبارك وتعالى هو ممن ذاق فعرف وعشق ، لن يجدي معه استهزاء وتسفيه بل وحتى تكفير وتفجير ..

في كتاب منتهى الآمال للمحدث القمي يحدثنا عن المزار المبارك فيقول "مزار السيد محمد في ثمان فراسخ عن سر من رأى قرب قرية بلد ، وهو أجلاء السادة وصاحب كرامات متواترة حتى عند أهل السنة والأعراب ، فهم يخشونه كثيراً ولا يحلفون به يميناً كاذبة ، ويجلبون النذور إلى قبره ، بل يقسم الناس بحقه في سامراء لفصل الدعاوي والشكايات ، ولقد رأينا مراراً ان المنكر لأموال شخص مثلاً إذا طلبوا منه القسم بأبي جعفر كان يرد المال ولا يقسم ، وذلك لتجربتهم أن الكاذب لو حلف به يصيبه الضر ، ورأينا منه في أيامنا هذه كرامات باهرة ، ولقد عزم بعض العلماء أن يجمع تلك الكلمات ويدونها حتى تصير كتاباً يحتوي على فضائله"

وختامًا يقول الحكيم ابن رشد في كتابه تهافت التهافت "من رفع الأسباب رفع العقل" وكان ذلك ضمن تفنيده مقال منكري قانون العلية التي يسير بها نظام الكون وعقل الإنسان ، فهو القانون الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى كما ورد في الأثر الشريف عنهم (عليهم السلام) "أبى الله إلا أن يجري الأمور إلا بأسبابها" (بحار الأنوار) ، ولا دليل على اقتصار هذا القانون على عالم الملك ، بل هو سار في كل عالم به الإنسان وعقله ، وإن توارت عن الأفهام أسرار بعض العلاقات العلية ، وإحدى هذه المظاهر هو العلاقة بين الإستجابة والوسيلة إلى الله عز وجل ، كما بقية العلاقات التي بينها القرآن كالصلاة والنهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا قيمة بعد هذا لمن يدعي العقل والتعقل ، وهو يهزأ بمثل هذه المظاهر عند المراقد الشريفة ، فهو قد رفع الأسباب التي يجهلها فرفع عقله معها ، بينما فيلسوف عقلي "كأمانويل كانت" توقف عند الماورائيات الدينية باعتبارها مجالًا للتلقي الوحياني ..

والسلام على أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يوم ولد ويوم رحل ويوم يبعث حيا



ملاحظة : تمت الإستفادة في كتابة هذا المقال من بعض المواقع الإلكترونية العلمية المعتمدة على المصادر الحديثية والبحثية