موقف العشق

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عندما يكون الإنسان حرًا فذاك أمر حسن ؛ ولكن أن تكون الحرية هواء يتنفسه ويختنق حين فقده فذاك هو الإنسان حقًا ؛ فالأول يُقيّد في لحظات إنما الثاني فلا يُمكن تقييده تحت أي ظرف ؛ حتى لو سجن وقيد بالأغلال يبقى هو الحر الذي يُقيد السجان وتلين الأغلال في يده كما يلين الحديد لداوود ؛ والتاريخ يحكي عن أولئك المساجين والمطمورين الذين اقضّوا مضاجع الجبابره والطواغيت وهم في سجِنِهم حتى قُتلوا أو شُردوا في الأرض دونما أي نتيجة في الإتجاه السالب في حرية أولئك ؛ لأن الحرية كانت حرية الروح لا حرية البدن التي لا تعني إلا عبودية تامه للروح ؛ وسجن لكل جميل !!


كانت تلك مقدمة كي نلج في موقف كربلائي بعمق بدل من الوقوف من بعيد ؛ موقف " الحر بن يزيد الرياحي " موقف العشق الذي قلب الإنسان من حالٍ إلى حال ؛ عله من السذاجة بمكان الإعتقاد أن ما حدث للحر تأثر لحظي وانقلاب مفاجئ دون خلفيات كان لها الدور الأبرز في نجاته في ذلك اليوم القيامتي ؛ يوم كان فيه الفرز بين جنة ونار لا أعراف في البين !! ولمعرفة خلفيات هذا الموقف الحر من هذا الإنسان لا نحتاج إلى البحث في كتب التاريخ ؛ والدخول في متاهات المؤرخين وتناقضاتهم ؛ بل يُكتفى بقول المعصوم (ع) بحقه : " أنت الحر كما سمّتكَ أمك " ؛ ويالها من شهادة لخصت الموقف كله ؛ نعم فلا يمكن لتأثر لحظي أن يقلب الأمر إلى عشق مفضي إلى الموت في سبيل المعشوق ؛ وشاهد على ما أقول هو موقف بشر الحافي مع إمامه (ع) كان السؤال الجوهري من الإمام الكاظم عليه السلام حين رأى عبودية بشر في سجن المادة : هل هو حر أم عبد؟ أجابت جارية لا تفقه قول الإمام : بل هو حر!! حينها رسم الإمام طريق الأحرار : لو كان عبدًا لخاف مولاه !! هنا كل الحرية التي بفعلها قلبت حال بشرٍ من لهو وطرب إلى بشر " الحافي " والزاهد العابد !!


نعود إلى كربلاء .. وإلى حُرها الذي أمعن النظر ! نعم أمعن النظر ليعرف في أين وإلى أين وحتمًا قبلها هو يعرف من أين ؛ أمعن النظر ولكن لماذا ؟! لأنه كاد يختنق حين أضاع فهم الحرية ؛ تمعن فعرف أنها تكمن في " التسليم " للمعصوم ؛ حريته كلها في موقف العشق الحسيني الذي أوصل من جعجع بآل محمد في الطريق إلى أن يكون شهيد عشق وحرية بين يدي سيد الشهداء ؛ نعم هنا العبد يكون حرًا بلا مفارقة ؛ ركب الحر السفينة الأسرع والأوسع ؛ وهذه نواميس الأحرار يصلون وإن تأخروا ولكنهم لا يُفوتون الوقت المناسب..


موقف الحر ليس موقف توبة ؛ بل التوبة نتيجة لموقف الحر ؛ فإن كان لابد من عِبرة هنا فهي ليس إمكانية الإنقلاب من حال إلى حال فهذا ما يدركه الوجدان بجلاء وتؤيده الشواهد التاريخية بوضوح ؛ والوجدان أدل من البرهان كما يُقال؛ ولكن العِبرة هنا في كيفية الإنقلاب من حال إلى حال ؛ من نار تنادي هل من مزيد أعدت للكافرين ؛ إلى جنة عرضها السماوات والأرض اعدت للمتقين !! الكيفية بعد كل ما سبق لا تحتاج إلى شرح سوى بضع جمل تلخص الأمر ؛ كُن حرًا في ذاتك وواقعك ؛ لتسلّم إلى الله الأمور ولمن شاء الله أن تُسلم لهم " وسلموا تسليما " حينها فقط ستكون ممن قال عنهم القرآن الكريم " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " ؛ وهنا فقط يمكنك أن تقف موقف العشق الذي عبر عنه الحر وأنصار الحسين في كربلاء حين تُستأنف كربلاء ونسمع الصيحة من بيت الله: ألا يا أهل العالم إن جدي الحسين قُتل عطشانًا !!