الوارث..

 قام سبط ذاك الذي صيّر الصحراء دوحة خضراء، ريحانة محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآلهليعيد دينه إلى واقع الناس بعد أن صارشعارات براقة لواقع ضال!.. خرج ابن ذاك الرجل الذي لا يعرفه إلا الله ورسوله، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ليسير بذات المسير ويلقىالله بذات المصير فائزًا ورب الكعبة، نهض ابن سيدة النساء التي حالت بين القوم وبين ولي الله، وقدمت نفسها الزكية فداء للوصي، ليكونالدين لله وحده وتبقى (أشهد أن محمدًا رسول اللهلفظًا ومعنى وسلوكًا إلى يوم ينادي آخر الأوصياء: "يا أهل العالم قُتل جدي الحسينعطشانًا"، يوم يثأر الله للدماء الزاكيات منذ قتل قابيل هابيل إلى آخر قطرة دم مظلومة، ويتم الله نوره ويظهره على الدين كله.. فالسلام عليكَأيها الوارث وعلى الأرواح التي حلت بفنائك عليكم مني سلامُ الله أبدًا ما بقيت وبقي الليل والنهار، وهذا عهدنا لكم ويا ليتنا كنا معكم فنفوزفوزًا عظيمًا


هذه الليلة!.. لو كشف الغطاء لما غفت عين ولا رقأت الدمعة ولا هدأت الونة، فالسماء في صيحة وضجيج لما نزل من عظيم المصاب، فلا عجبأن يكون الصباح يوم فجيعة ذوي البصائر ويوم كربهم وحزنهم، فبينهم وبين السماء نور حلّ في قلوبهم يستحيل في هذا اليوم نارًا لا تنطفئأبدًا، نارٌ جعلت وجودهم كيان رافض للظلم وأساسه، لا يتمكن أحدهم أن يتعايش مع وجوده، ليرغب المؤمن في لقاء محقًا، فالوارث الذييبكون لا يرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما، لذلك ستعلو في كل مأتم ومجلس وبيت "إِنِّي سِلْمٌ لِمَنْ سالَمَكُمْ وَحَرْبٌ لِمَنْ حارَبَكُمْإِلى يَوْمِ القِيامَةِ"، فكربلاء الفاجعة قد انتهت وقائعها ذاك اليوم، وبقيت بحرارتها في القلوب السليمة إلى يوم القيامة، لذلك تتجدد في النفوسقيم الولاء للحق والبراءة من الباطل في ذكراها؛ إذا ما ران على القلوب غبار الدنيا وفتنها المتجددة، فيوم عاشوراء يوم التخلية والتحلية، يومٌ لاتنفك فيه (لا إلهعن (إلا الله)، فأشهد أن لا إله إلا الله.


هو الحزن الأقدس!.. لمن نال كرامة معرفة أولياء الله، وما بذلوا في سبيل الله ليستنقذوا عباده من الجهالة وحيرة الضلالة، فمن هوان الدنياعلى الله تعالى أن رأس يحيى بن زكريا يُهدى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، ويهدى رأس الوارث إلى الفاسق الفاجر، شارب الخمر قاتلالنفس المحترمة المعلن بالفسق والفجور، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وهكذا تستمر تصاريف هذه الدنيا في كل يوم على أولياء الله، فينادياليوم من سيأتي الله بالقيامة بقلب سليم داعيًا "وَأَنْ يُثَبِّتَ لِي عِنْدَكُمْ قَدَمَ صِدْقٍ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِلينال شرف الانتساب إلى الوارث في أيزمان كان وفي أي بقعة حل، فتنتسب المصيبة الكبرى له فيسأل الله أن يعطى بمصابه بهم أفضل ما يعطى مصابًا بمصيبته "مُصِيبَةًماأَعْظَمَها وَأَعْظَمَ رَزِيَّتَها فِي الإسْلامِ وَفِي جَمِيعِ السَّماواتِ وَالأَرْضِفتناله الصلوات والرحمة والمغفرة ويكون معهم في الدرجات العلى منالجنان.


نعم؛ حين يحزن المعزين لحزنهم ويوم يفرحون لفرحهم، ستظل جذوة ذلك اليوم في قلوبهم، محبة بل وعشقًا للحق الظاهر بشخوصهم الطاهرة،وإن المحب لمن أحب مطيعُ كما ورد عن الوارث، وما كان هو بأبي وأمي سوى المحب الواله للقاء لله تعالى فكان من دعاءه الشهير في موقفعرفة "إلهي فَلا تُحْلِلْ عَلَىَّ غَضَبَكَ، فَاِنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَىَّ فَلا اُبالى سُبْحانَكَ غَيْرَ اَنَّ عافِيَتَكَ اَوْسَعُ لىفكانت عاشوراءه مصداقًا لما لهج بهبين يدي خالقه، والمرء إن شاء أن يكون حسينيًا فليكن إلهيًا، فما خرج الحسين (عليه السلامطالبًا للسلطة ولا ساعيًا للشهادة وإن كانراغبًا بها، فتلك نتائج بيد الله تعالى وهو المسلّم لأمره بما شاء وكما ورد عن أخيه المظلوم الحسن المجتبى (عليه السلام) : "من اتكل على حسن اختيار الله عز وجل له لم يتمنَ غير الحال التي اختارها الله تعالى لهلذلك نادى في صبيحة يوم عاشوراء: "اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي‌ فِي‌ كُلِّ كَرْبٍ ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي‌ فِي‌كُلِّ شِدَّةٍ ؛ وَأَنْتَ لِي‌ فِي‌ كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي‌ ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ"، ولكنه خرج كما نادى وأعلن في غير موضع لطلب النجاح والصلاح، وماشاء الله كان ورضي به (عليه السلامورضي به كل سائر على الدرب لذلك نقول "اللّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ لَكَ عَلى مُصابِهِمْ، الحَمْدُ للهِعَلى عَظِيمِ رَزِيَّتِي، اللّهُمَّ ارْزُقْنِي شَفاعَةَ الحُسَيْنِ يَوْمَ الوُرُودِ وَثَبِّتْ لِي قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَكَ مَعَ الحُسَيْنِ وَأَصْحابِ الحُسَيْنِ الَّذِينَ بَذَلُوا مُهَجَهُمْ دُونَالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلامُ".


وما أجمل ما أبدع الشاعر الجواهري في عينيته، وما ألذ قراءتها في مثل هذه الليلة بمضامينها العالية، التي جمعت فجيع المصيبة وقيمصاحبها


فِدَاءً لمثواكَ من مَضْــجَعِ 

تَنَـوَّرَ بالأبلَـجِ الأروَعِ


بأعبقَ من نَفحاتِ الجِنـانِ 

رُوْحَاً ومن مِسْكِها أَضْـوَعِ


وَرَعْيَاً ليومِكَ يومِ "الطُّفوف

وسَقْيَاً لأرضِكَ مِن مَصْـرَعِ


وحُزْناً عليكَ بِحَبْسِ النفوس 

على نَهْجِكَ النَّيِّـرِ المَهْيَـعِ


وصَوْنَاً لمجدِكَ مِنْ أَنْ يُذَال 

بما أنتَ تأبـاهُ مِنْ مُبْـدَعِ


فيا أيُّها الوِتْرُ في الخالدِينَ 

فَـذَّاً ، إلى الآنَ لم يُشْفَـعِ


ويا عِظَةَ الطامحينَ العِظامِ 

للاهينَ عن غَـدِهِمْ قُنَّـعِ


تعاليتَ من مُفْزِعٍ للحُتوفِ 

وبُـورِكَ قبـرُكَ من مَفْـزَعِ


تلوذُ الدُّهورُ فَمِنْ سُجَّدٍ 

على جانبيـه ومـن رُكَّـعِ


شَمَمْتُ ثَرَاكَ فَهَبَّ النَّسِيمُ 

نَسِيـمُ الكَرَامَـةِ مِنْ بَلْقَـعِ


وعَفَّرْتُ خَدِّي بحيثُ استراحَ 

خَـدٌّ تَفَرَّى ولم يَضْـرَعِ


وحيثُ سنابِكُ خيلِ الطُّغَاةِ 

جالتْ عليـهِ ولم يَخْشَـعِ 


وَخِلْتُ وقد طارتِ الذكرياتُ 

بِروحي إلى عَالَـمٍ أرْفَـعِ


وطُفْتُ بقبرِكَ طَوْفَ الخَيَالِ 

بصومعـةِ المُلْهَـمِ المُبْـدِعِ


كأنَّ يَدَاً مِنْ وَرَاءِ الضَّرِيحِ 

حمراءَ " مَبْتُـورَةَ الإصْبَـعِ


تَمُدُّ إلى عَالَـمٍ بالخُنُـوعِ 

وَالضَّيْـمِ ذي شَرَقٍ مُتْـرَعِ


السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ إِبْراهِيمَ خَلِيلِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَمُوسى كَلِيمِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِيسى رُوحِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ ، السَّلامُعَلَيْكَ يا وارِثَ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ



ليلة عاشوراء - ١٤٤٢ هـ