ليلة في منزل قمي!


(مشاهدات وملاحظات)

الصديق الرفيق أحمد حيدر مع الحاج بوحسين في منزله بقم



- أهل قم!
كان القرار في هذا الصيف؛ أن تكون جولتنا في بعض مدن الجمهورية الإسلامية إيران ، ابتداءً من العاصمة (طهران) ، وبعدها انتقلنا الى شمال إيران (كلاردشت) ، حيث ابداع الخالق في رسم لوحة الطبيعة الخلابة ، ومن ثم الى (قم) عُش آل محمد {ص} ، وحرم آل البيت {ع} ، وهي موضع الحديث هنا ، إذ يتميز أهلها بطيبة واضحة ، يلمسها من يتماس مع اهلها الأصيلين ، أهلها أهل فطرة وبساطة وأخلاق وتدين ، مثل الحاج رضا (أبوحسين) .. الذي كان معنا في أغلب جولاتنا في هذه المدينة الطيبة ، (أبوحسين) يتكلم العربية بركاكة ، ولكنه يتكلفها ليكون في خدمة (زوار المعصومة) كما يقول ، هذا النموذج القمي يختصر الكثير مما أود أن أقوله عن أهل (قم)!

- ليلة الورطة!
كان القرار أن نغادر (قم) عن طريق القطار الى مشهد الإمام الرضا (ع) ، وكما المعتاد اقلّنا (أبوحسين) في سيارته الصغيرة الى محطة القطار ، وجرت مراسيم التوديع وتبادل الأرقام ، وغادرنا (أبوحسين) لشأنه ، وحان موعد ركوب القطار ، إلا أن خللًا ما في حجزنا منعنا من السفر - يطول المقام بلا فائدة في شرح الخلل - فلم يخطر على بالنا غير (أبوحسين) لنتصل عليه ، وبعد ربع ساعة وجدناه أمامنا ، ولكن ما الذي يمكن يفعله قمي فقير لنا ،  في الحقيقة الكثير الكثير نسبةً الى امكاناته ، اذ أصر علينا أن لا نبيت ليلتنا الا في بيته ، مرددًا كلمة (أبد) أمام اصرارنا على حجز ليلة اضافية في فندق  ، وبالفعل بتنا ليلة في منزل قمي!

- الحسين {ع} جمعنا!
(أبوحسين) عاشق للحسين {ع} بفطرة طاهرة ، حديثه الدائم عن كربلاء وزيارته لها واشتياقه الدائم اليها .. مراثي الحسين {ع} دائمًا تعلو من سيارته باللغة العربية والفارسية ، وحينما استضافنا ببيته التلفاز ينتقل من مرثية لأخرى من تسجيله لها ، وكان يقف ابنه امامها ويردد معها ويلطم صدره .. هذه المشاهدات وهذه المناظر سجلت ببالي ملاحظة لطيفة .. أنا العربي ما الذي يجمعني بهذا الفارسي سوى آل محمد!! إلى أن نطقها (أبوحسين) ، أنتم زوار المعصومة {ع} لابد من خدمتكم كما يخدمنا أهل كربلاء حين نكون في زيارة الحسين {ع} .. نعم!.. الحسين {ع} هو البوتقة التي انصهرت فيها كل الحضارات والثقافات!

- كرم الضنك!
دخلنا دار القمي الطيب .. بسيطة كبساطة صاحبها ، مريحة للنفس بصفاء نفوس أهلها ، دار لم تعرف للفخامة المادية أي مظهر ، الا أنها جمعت أناس تسابقوا على كرم الضيافة ، فحين دخولنا بادرت والدته وأهله الى صنع طعام العشاء ، وجاء اخوته للسلام والتحية علينا ، ودارت بعض القفشات والحوارات التي أزاحت عن نفوسنا هم الورطة التي وقعنا فيها مع القطار .. وهنا ينبغي أن نُسجل ملاحظة مهمة؛ "الكرم" لا يرتبط بالغنى أبدًا ، بل هو سجية النفوس الطيبة!  

- النفوس سعيدة!
الخصال الحميدة سلسلة تعضد كل حلقة الأخرى لتوصل إلى "السعادة" فلا يكون الفقير "كريمًا" الا حين يعيش "القناعة" بما يرزقه الله؛ والقناعة نتيجة حسن الظن بالله والرضا بقدره الذي يجلب "السعادة" في الدارين ، ورأيت في بيت (أبوحسين) نفوس سعيدة ، فأخوه النجار كان يوزع القفشات ، (وأبوحسين) دائم الإبتسامة وابنه يلعب هنا وهناك ، وحين حان وقت النوم ، فاض هذا الرجل أبوةً على ابنه وهو مستلقي على الارض على خرقة لا تقيه رطوبتها ، ويلاعب ابنه وابنه يلاعبه ، انها نفوس سعيدة!

- تراب الجنة!
"عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم" ، ورطة القطار التي أزعجتنا كثيرًا ، وأفسدت مخطط السفرة لوهله؛ كانت مما نكرهه ، ولكن في السفر تعرف معادن البشر ، وكان مرآة الحياة الصديق الحبيب (أحمد حيدر) هو النفس الكبيرة ، اختصر الموقف موجهًا كلامه لي "ليلة جديدة في ضيافة السيدة المعصومة .. لعله خير" ووجدنا الخير كله في هذا الجوار المبارك حين بدأ (أبوحسين) حديث ذكرياته في كربلاء والزيارة .. فتذكر أنه تحصل على تربة الحسين {ع} وأبى إلا أن يشاركنا بجزء منها ، فخرجنا بتلك الليلة بتراب من الجنة!

- التكنولوجيا ليست هي الحياة!
آخر ما يمكن تسجيله عن هذه الليلة اللطيفة هو حديث التكنولوجيا (الواتساب - التويتر - الإنستجرام) الانترنت بكل تعقيداته لا وجود له في منزل (أبوحسين) ، فهو أمر ترفي بالنسبة له ، و لا حاجة لمثل (أبوحسين) به ، نعم بالنسبة لنا هو مهم ومصدر للعلم والتواصل ، ولكن توقف ذهني كثيرًا على الساعات المهدورة على مواقع التواصل بلا مردود علمي وتواصلي حقيقي ، سوى ملئ فراغ الوقت الذي لا يعيشه أمثال هؤلاء ، ولا ينبغي أن نعيشه نحن فقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) "اشغل نفسك بطاعة الله قبل أن تشغلك بمعصية الله" ، والسؤال هنا كم هي ساعات الغبن التي سنتحسر عليها يوم القيامة نتيجة الالتهاء بوسائل التواصل الاجتماعي !؟ 


وفي الصباح غادرنا عُش آل محمد (ص) الى مشهد الرضا (ع)!