أمي تعلمني!


الغايات الرفيعة لا تُنال إلا بالكدح لله جل جلاله ، فهو غاية الغايات والهدف في كل عمل المؤمنين ، ونيل رضوانه هو الفوز الذي لا فوز بعده ، أما السبيل إلى ذلك هم عترة محمد بن عبد الله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، باعتبارهم حجج الله تعالى على الخلق فيما قالوا وفعلوا ، وبذلك كانوا القدوة والأسوة العملية في حياة الفرد والمجتمع ، للوصول لغايات الكدح والعمل ، نعم هم موجودات ملكوتية لا تنال مقاماتها الحقيقية أفهام ذوي الألباب ، إلا أنهم في حياتهم البشرية مثل أعلى لكل سائر الى الله .

لكل معصوم منهم محطات يُستسقى منها ما يروي ظمأ البشرية ، فكانت فاطمة بنت محمد سيدة نساء العالمين (عليها السلام) قطب تدور حوله أفلاك الصالحات ، وهذا ما شاهدته عيانًا في حياة المرحومة بإذن الله تعالى والدتي الحاجة خديجة كاظم عبد الحسين ، اذ ارتبطت بالسيدة الزهراء (عليها السلام) وبعزيزتها أم البنين (عليها السلام) ، ارتباطًا يلتمس القدوة والأسوة لتمارس دورها في الحياة كإمرأة مؤمنة تبتغي وجه الله فيما تقول وتفعل ، هذا الإرتباط الذي جعلها تعيش مأساة الزهراء (عليها السلام) ومصابها ، ذارفة دموعها من قلب يشتعل حزنًا على ما جرى عليها في سبيل الله ، وكذلك شأنها مع أم البنين (عليها السلام) فيما عاشت من مصائب ورزايا ، حتى رحلت والدتي العزيزة وهي تندب الزهراء وعزيزتها (عليهما السلام) .

شهادة لله تعالى أشهدها بحق والدتي ويشاطرني في هذه الشهادة إخوتي وأخواتي؛ شهادة سنيني الخمس والعشرون التي عشتها معها ، أنها كما نقول "كفت ووفت" في تربيتها لنا وتعليمنا واعدادنا لكل خير ، وكذلك أنقل شهادة والدي العزيز الحاج "زهير عبد الهادي المحميد" في حقها إذ قال "لم أرَ من هذه الطاهرة أي أذى في حياتي" حتى أطلق عليها لقب "أم الخير" ، ولا أنسى شهادة جدي الحاج "كاظم عبد الحسين" والدها حين كان يردد "ما قثتني في حياتها ولا بكلمة" ، وكان هذا درسًا عمليًا لنا كأبناء أن نكون كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : "خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتمْ بعدها بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشتمْ حَنوا إِلَيْكُمْ " .

في حياتها علمتني الكثير سواء قولًا وفعلًا ، لعل أبرزه الإرتباط بالله عز وجل في كل الحالات ، فكانت لا تنفك عن عباداتها ومحرابها إلا لعبادة أخرى في رعاية أسرتها وتنشأتها على هذا الإرتباط ، ولم تنسَ نصيب مجتمعها إذ كانت مربية ومعلمة للفتيات في الدورات الإسلامية ، دورات لتعليم القرآن ونشر معارف الدين وإحياء شعائر الحسين (عليه السلام) ، حتى نشأ جيل من الفتيات على يديها لم ولن ينساها كما يُنقل لنا من أهلنا؛ مشاهد وفاء ممن تربى على يديها في حضور عزائها ، ورثائها كمعلمة ومربية لهن ، وكان من لوازم ارتباطها بالله صفات يعرفها عنها كل من عرفها ، من عفة وحياء وعزة نفس وكرامة ، وسمو على الجراحات بقلب يسامح ويصافح الجميع ، حتى وصف أخوها الأكبر الخال الحاج "حسين كاظم" قلبها أنه "أبيض يمحي كل سوء" .

ورد عن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال "الْمُؤْمِنُ بِشْرُهُ فِي وَجْهِهِ ، َحُزْنُهُ فِي قَلْبِهِ" هذه الحكمة لسيد الحكمة كانت من أبرز ما علمتنيه أمي رحمها الله ، ففي أوج بلائها ومرضها كانت متبسمة في وجوه أحبابها ، تمارس حياتها بكل تفاصيلها من رعاية لأسرتها ، بقلب مطمئن بأن ما أصابها بعين الله تعالى ، كانت تخفي الكثير من معاناتها ومرضها عنا كأبنائها ، كي لا نتألم ، وأخفت كذلك عن والديها آلامها؛ التي كانت تهونها عليهم دومًا بابتسامتها وبكلمة "أنا بخير ، الحمد لله" ، حنان وعطف ورعاية تعلوها ابتسامة ، رغم البلاء والآلام والمرض ، يعني ذلك أنها صابرة وشاكرة وراضية ، وبذلك علمتني عمليًا كل ذلك .

"وكانت في حياتكَ لي عظاتٌ .. وأنت اليوم أوعظ منك حيًا" ، أستعير قول الشاعر هذا لأبين ما تعلمته من رحيلها إلى رضوان الله تعالى وجنانه ، فسنيني معها لم تكن كافية لأتعلم منها كل ما أرادت ، فعلمتني برحيلها الكثير ، فبعد رحيلها رأيت سنة الله تعالى فيمن يكتم صدقته ، إذ عرفنا بعد رحيلها أنها كانت ترعى أيتام وأرامل المسلمين في شتى البلدان ، فجزاها الله بأن صار الصالحين والصالحات يتسابقون في عمل الخير باسمها ولروحها الطيبة ، ورأيت سنة الله تعالى فيمن يكتم بلاءه صابرًا وشاكرًا ، حتى دعا لها القريب والغريب من علماء ومؤمنين ومؤمنات ، ووصلتني الرسائل من شتى البقاع المقدسة من العلماء والأصدقاء ، أنهم لم ينسوها من الدعاء والصلاة عند ساداتها وسادات الخلق أجمعين ، خصوصًا أن الله تعالى اختارها إلى جواره في يوم عرفة المبارك ، والناس منشغلة بعبادتها ، فأشرك الله تعالى والدتي في دعائهم وعبادتهم ، جزاءً لصبرها وشكرها ، وجزاء الآخرة عند الله تعالى أكبر .

نعم!.. ما زالت أمي تعلمني ، ولم ولن يهون علي ألم فراقها إلا ما تعلمته من صبرها وشكرها ورضاها بقضاء الله تعالى ، ولن أنساها ما حييت في كل صالح ، أسأل الله تعالى أن أكون لها صدقة جارية ، والحمد لله أولا وأخيرًا ، رحم الله من قرأ الفاتحة على روحها الطيبة.