بين الفكر الإسلامي والعلمانية

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال الله جل جلاله : " قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى "


إن الله عز وجل في هذه الآية المباركة اختصر الموعظة الإلهية بواحدة ، وبذلك وجب على الإنسان أن يتعمق وينظر إلى هذه الموعظة بعين فاحصة ، فمن المستحيل أن تكون الموعظة الإلهية مختزله فقط في الشعائر والبعادات على أهمية تلك الشعائر والعبادات في الثقافة الإيمانية ، إلا أن الموعظة الإلهية هنا تشمل كل حركة وسكنه للإنسان في هذا الحياة ، فالفهم الشعائري للدين الإسلامي هو فهم سطحي حيث إن خاتمية الإسلام وخلوده وشموله يحتمون عقلا وجود نظام حياتي شامل في كل المجالات سواء سياسية أو اقتصادية أو حياتية وحقوقية ، فالتشريع الإسلامي فيه من المرونة ما يدير الدول في أي عصر ، ولا تعني المرونة هنا التنازل عن الأحكام والتشريعات التي وضعها الله جل جلاله ، إنما المرونة تكمن في ذات التشريعات وفي ذلك تفصيلات كثيرة لسنا في موردها .

إن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية كما الدولة العلمانية ، إلا أن لكل منهما نظرية نشأة ونظرية حكم ، فالدولة المدنية هي دولة النظام والدستور والمؤسسات ، وهذا مما يتناغم مع الفكر الإسلامي الذي يأمر بنظم الأموركما في حديث الإمام علي بن أبي طالب (ع) " الله الله في نظم أموركم "، والحريات مكفولة تماما في الدولة الإسلامية حيث أن الفكر الإسلامي يستمد من قول الله عز وجل في سورة الكافرون : " لكم دينكم ولي دين " التعددية وكذلك يقول الله عز وجل " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين " وعندما نقرن تلك الآيات بأفعال الرسول الكريم (ص) نرى أنه قبل أن يتعايش مع يهود المدينة دون أن يتعرض لهم إلا حين تآمروا عليه وعلى أهل المدينة هنا وجب الدفاع عن الدين والنفس والعرض ، وهذا لا يختلف معه أي فكر وأيدلوجية .

إن إمكانية التعايش في ظل الدولة الإسلامية موجودة ن حيث يقول الإمام الباقر عليه السلام " صلاح حال الناس في التعايش والتعاشر وهو ملئ مكيال ثلثاه فطنة وثلثه تغافل " فلا يجوز الحكم على الفكر بسبب ممارسة متطرفة فالتطرف موجود في كل خندق ، فكما يتطرف الإسلاميون يتطرف العلمانيون ، وما العلمانية الأتاتوركية والعلمانية الفرنسية ببعيدة فهي متطرفة لا تقبل التعددية ، بل حتى لا تقبل الممارسات العقائدية أو الحرية الشخصية في لبس الحجاب ، إذا فالأمر منوط في المجتمع نفسه ، ففي الكويت الماضي على سبيل المثال كان كل متمسك بدينه إلا أنهم عرفوا التعايش وفنه ومارسوه ، فكان السني في حسينية الشيعي ، والشيعي في مسجد السني ، دون أن يتنازل أي واحد منهم عن دينه ومعتقده .

نأتي الآن إلى مسألة هامة جدا وهي الروح الوطنية في الفكر الإسلامي ، حيث يُتهم الإسلاميون بأن ولائهم ليس لوطنهم خصوصا إذا كانت هناك دولة دينية حسب فكرهم ، تتوجه إليهم التهم بالولاء لها إلا أن التهمة باطلة حيث أن الإنسان بعقيدة الإسلام خلق لأمرين عبادة الله جل جلاله وتعمير الأرض ، وما نحن بصدده هنا الغاية الأخرى وهي تعمير الأرض حيث يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) :" عمرت الأوطان بحب البلدان " إذا إحدى غايات الخلق بعقيدة الإسلام تتحقق بحب الوطن الذي يقول عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " حب الوطن من الإيمان " ، وفي هذا الموضع يتجلى أروع تلاقي بين الإسلام والوطنية .

وأما ثاني المواضع فهي الأخلاقيات الإسلامية، فالروح الوطنية هي الدافع الرئيسي للوحدة الوطنية والتوافق بين أهل هذا البلد نحو التعايش السلمي والإسلام هو المنمي لهذه الروح الوطنية ، حيث أن أخلاقيات الإسلام حثت على التعايش السلمي حين يقول الإمام الباقر (عليه السلام) " صلاح شأن جميع الناس التعايش والتعاشر وهو مِلْءُ مِكيال : ثلثاه فطنة ، وثلثه تغافل " ، ولو نلاحظ قول الإمام الباقر (عليه السلام) لم يخص المسلمين دون غيرهم بل كان شاملا للناس كلهم وهذا يذكرنا بحديث جده الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عهده الشهير لمالك الأشتر النخعي حين ولاه مصر فقال عن الناس : " هم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق " .

وكذلك من الاخلاقيات الإسلامية التي تنمي الروح الوطنية هي الوفاء ، إذ أن الإنسان المسلم وفي ويرد الجميل بأحسن منه حيث يقول الباري جل جلاله في سورة الرحمن (آية 90) :" هل جزاء الاحسان الا الاحسان " ، والوطن الذي حضن الإنسان ووفر له العيش الكريم يستحق أن نكون أوفياء له وكرماء في سبيله إذ يروى عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) : " من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه، و حنينه إلى أوطانه ، و حفظه قديم إخوانه " .

والوفاء هنا يقودنا إلى خلق اسلامي آخر ينمي الروح الوطنية وهو التفاني في خدمة الوطن والتضحية في سبيله في وقت المحن ، وإظهار البأس والقوة على المعتدي الآثم على ترابه ، وهكذا أخلاقيات الإسلام شملت كل ما يمكن أن يقدمه المرء لوطنه ، ليكون الإسلام هو الدافع الرئيسي إلى التحلي بالروح الوطنية ، والأيدلوجية الإسلامية حاضن لهذه الروح ، ومن هنا نقول لابد من احترام جميع التوجهات والتيارات الفكرية ، ولا يمكن احتكار الوطنية واختصارها على فئة دون أخرى ، فلكل فكر أسس ينبغي أن تحترم وتناقش بموضوعية بعيدا عن الحدية والأحكام المسبقة والثنائية في المنطق .

إن الفكر الإسلامي مستمد من القرآن وأهل القرآن وبالتالي هو من الله جل جلاله الذي هو عليم بحال الإنسان وما يصلح له وما لا يصلح ، كما أن صانع الجهاز هو الأعرف به ، الخالق أعرف بمخلوقه ، أما الفكر العلماني هو ردة فعل على الإضطهاد الكنسي الذي تمادى في ظلمه وممارساته ، فتمادى الفكر العلماني في ردة الفعل حتى قمع الحريات في عدة مواضع ذكرناها .


ملاحظة : الإختلاف الفكري لا يعني أبدا عدم احترام الطرف الآخر .
لمتابعة الحوار مع شباب منتدى الوسط اضغط هنا

ليست هناك تعليقات: