التسليم .. سر ملحمة الخلود


العقل سيد المخلوقات ، شرف الله به بني آدم ، وجعله الميزان في حركة الإنسان ، وقد ورد في البحار عن الإمام الصادق (عليه السلام) : " لما خلق الله العقل ، قال له أقبل فأقبل ، ثم قال له أدبر فأدبر ، ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وعليك أثيب" ، بهذا العقل عُبد الرحمن ، واكتسبت الجنان ، وصار الإنسان إنسان ، شرط أن يوضع في موضعه كي لا يضيع بين إفراط يسرف فيه وتفريط يعطله ، وكمال هذا العقل هو التسليم لما هو مسلَّم بلا حرج ، ولذا نجده في الرواية المذكورة مسلّمٌ لأمر الله في الإقبال والإدبار ، حيث أنه مقر له بالعبودية شاكرًا بالطاعة ، بعد اليقين بأن لا إله إلا الله . 
التسليم وهو الحركة الناتجة عن الإقرار والإذعان العقلي لليقينيات ، على النقيض من التقليد ، وحتمًا ليس المقصود من التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم ، تلك السنة العقلية والشرعية ، وإنما التقليد المقصود هو الإتباع دون علم وعقل ، وهي الظاهرة التي ذمها القرآن ورفضها العقل ، والفارق الجوهري بين التسليم والتقليد ، هو أن صاحب الأول ذو حجة وبرهان ويقين في انقياده ، أما صاحب الثاني فحجته هي عمله وانقياده ، وفي كتاب الله العزيز كانت المواجهة دومًا بين خط التسليم المتمثل بالأنبياء والأولياء ، وبين خط التقليد المتمثل بالمستكبرين ، " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" ،  إبراهيم يحاجج بالعقل ، والقوم يردون بالتقليد .
قال الله في كتابه العزيز " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا " ، فالإيمان إذًا رهينة التسليم ، والتسليم كمال العقل ، فالمؤمن حق المؤمن هو العاقل ، الذي أدرك ربه ، وسار في خط رسله وأنبياءه وأولياءه ، بعد أن استثاروا دفائن عقله ، فلا يجد بعدها حرجًا في الإذعان حتى فيما لا تُدرك حكمته العقول ، التي كان كمال تسليمها معرفتها بحدودها وآفاقها ، فهي مؤمنة بالغيب كما هي مؤمنة بالشهود ، لذلك حكى القرآن عن المؤمنين تصديقهم لوعد الله في أحلك المواقف " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا" .
ومن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأحزاب ، إلى أصحاب الحسين (عليه السلام) في كربلاء ، فكربلاء كما أبدع أحد العلماء هي سرية من سرايا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)  كلّف بها الحسين (عليه السلام) ، والنظر فيها لابد أن ينقلنا من الدمعة إلى الغاية ، ومن البطولة إلى التأسي ، لنكون معهم فنفوز فوزًا عظيما ، فعاشوراء هي ملحمة الخلود ، يجد فيها الطفل طفولته ، والفتى فتوته ، والرجل رجولته ، وكانت المرأة فيها زينب (عليها السلام) ، والإنسان إذا كان يبحث له عن دور تمهيدي مهدوي ، فليعبر جسر كربلاء بقراءة واعية لأبطاله في سيرتهم الكاملة ما قبل عاشوراء ، لينال ما نالوا في عاشوراء ، ودراسة ذلك جديرة وتحتاج إلى مقام موسع وبحث معمق .
من خطبة لسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) حين عزم الخروج إلى العراق قال : " وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني بأوصالي يتقطعها عسلان الفلوات ، بين النواويس وكربلاء ، فيملآن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضى الله رضانا أهل البيت ، نصبر على بلائه ، ويوفينا أجور الصابرين" ، كانت هذه الخطبة وغيرها من كلمات سيد الشهداء التي تنضح بالتسليم لله فيما قضاه ، قد أجْلَت منذ بداية المسير إلى الشهادة عن المسار والمصير والغاية ، فلذا كانت الكوكبة في عاشوراء مضرب المثل في التسليم لله ولوليه تبعًا لإمامهم ، ونقتفي في ذلك بعض الكلمات وبعض التضحيات .
ولعلنا نقتصر على بعض النماذج لضيق المقام ، بعد أن صدرناها بسيدهم الإمام الحسين (عليه السلام) ، لننتقل إلى عقيلة الطالبيين زينب الكبرى (عليها السلام) التي كشفت عن تسليمها لله حين رفعت ذلك الجثمان بذاك الحال الذي ضجت له أملاك السماء فقالت وهي العالمة غير المعلمة "اللهم تقبل منا هذا القربان" ، وبهذا العزم قادت النهضة الحسينية بعد الشهادة ، ومن موقف الحوراء إلى الكفيل أبا الفضل العباس (عليه السلام) الذي شهد له الإمام في الزيارة بأنه "العبد الصالح المطيع لله ولرسوله" ، ومن يشهد له حجة الله لا حاجة لأن نبحث في سيرته ، إلا لتتزود أنفسنا من معينه ، ويكفينا في المقام أن نتأمل العباس (عليه السلام) سيد الغيرة ، وهو يرى تلك الأهوال النازلة ، ويسمع صياح الأطفال العطشى ، وبكاء النساء الثكلى ، ويقرع سمعه استغاثات ولي الله ، وهو غير مأذون له بالقتال ، فيصبر بصبر لا يكون إلا لمن كان قلبه مسلمًا لله تعالى ولرسوله ، وله أسوة في ذلك بأبيه الوصي أمير المؤمنين (عليه السلام) وصبره وتسليمه في مأساة الزهراء (عليها السلام) ، لذلك نرى استئذانه من سيد الشهداء (عليه السلام) بكلماتٍ تتشظى لهبًا مناديًا : " قد ضاق صدري ، وسئمت من الحياة ، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين ".
وفي قولةِ علي الأكبر (عليه السلام) لأبيه الحسين (عليه السلام) : "ما دمنا على الحق فو الله لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموت علينا " آية من آيات التسليم لشاب نافذ البصيرة ، سلّم للحق تسليما وأرخص له النفس والنفيس ، وكذلك ابن عمه القاسم (عليه السلام) ابن السبط الزكي المجتبى (عليه السلام) الذي يرى الموت بين يدي عمه الحسين (عليه السلام) أحلى من العسل ، وهو الذي لم يبلغ الحلم عمرًا ، وبلغ الرشد عقلًا بالتسليم لحجة الله ، كيف لا وهو بن العقل المتجسد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)   ، هذه نماذج مما كان من أهل بيت النبوة (عليهم السلام) ، أما من الأصحاب الذين هم خير الأصحاب بشهادة ولي الله سيد الشهداء (عليهم السلام) فقد اقتبسوا من الشمس شعاعًا ، فتفانوا تسليمًا بالقول والعمل ، حتى حين أرخصهم سيد الشهداء (عليه السلام) في جنح الظلام ، كان التسليم قد روى صدورهم ، حتى تمنوا الموت والتقطيع ألف مرة دون ولي الله ، حتى لو كانت الحياة فانية فكيف وهي باقية ، هكذا العقل حين يكمل ، وهكذا  كربلاء والكربلائيون ، ملاحم التسليم التي قادت للتضحية ، وهكذا يكون الإنسان كربلائيًا في كل حين ، يسلم أمره لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) بلا حرج ، فيكون ممهدًا ومهدويًا.


المقال مشاركة في مجلة الطف الإلكترونية
لتحميل المجلة على الرابط التالي :

ليست هناك تعليقات: